الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.فصل: (تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق): ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق لأن الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران فإذا مساعيهم وأعمالهم كلها متمولات ومكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخريا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر وذهب لهم حظ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة وإن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة وقعدوا عن السعى فيها جملة فأدى ذلك إلى انتقاض العمران وتخريبه والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق..الاحتكار: وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع وربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التواحي والتعجيل فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان وتعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم وقد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة والواردين من الآفاق في البضائع وسائر السوقة وأهل الدكاكين في المآكل والفواكه وأهل الصنائع فيما يتخذ من الآلات والمواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطبقات وتتوالى على الساعات وتجحف برؤوس الأموال ولا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح ويتثاقل الواردون من الآفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق ويبطل معاق الرعايا لأن عامته من البيع والشراء وإذا كانت الأسواق عطلا منها بطل معاشهم وتنقص جباية السلطان أو تفسد لأن معظمها من أوسط الدولة وما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه ويؤول ذلك إلى تلاشى الدولة وفساد عمران المدينة ويتطرق هذا الخلل على التدريج ولا يشعر به هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأما أخذها مجانا والعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأغراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدولة سريعا بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض ومن أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله وشرع المكايسة في البيع والشراء وحظر أكل أموال الناس بالباطل سدا لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة يستحدثون ألقابا ووجوها يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج ثم لا يزال الترف يزيد والخرج بسببه يكثر والحاجة إلى أموال الناس تشتد ونطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تمحي دائرتها ويذهب برسمها ويغلبها طالبها والله أعلم..الفصل الرابع والأربعون في أن الحجاب كيف يقع في الدول وفي أنه يعظم عند الهرم: اعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه لأته لابد لها من العصبية التي بها يتم أمرها ويحصل استيلاؤها والبداوة هي شعار العصبية والدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك وإن كان قيامها بعز الغلب فقط فالبداوة التي بها يحصل الغلب بعيدة أيضا عن منازع الملك ومذاهبه فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من الناس وسهولة الإذن فإذا رسخ عزه وصار إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه لما يكثر حينئذ بحاشيته فيطلب الانفراد من العامة ما استطاع ويتخذ الإذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته ويتخذ حاجبا له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة ثم إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعه استحالت أخلاق صاحب الدولة إلى أخلاق الملك وهي أخلاق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها وربما جهل تلك الأخلاق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوا وصاروا إلى حالة الانتقام منة فانفرد بمغرفة هذه الآداب الخواص من أوليائهم وحجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت حفظا على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم على الناس من التعرض لعقا بهم فصار حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء وبحجب دونه من سواهم من العامة والحجاب الثاني يفضي إلى مجالس الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامة والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا كما حدث لأيام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أمية وكان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جريا عل مذهب الاشتقاق الصحيح ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف والعز ما هو معررف وكملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني وصار اسم الحاجب أخص به وصار بباب الخلفاء داران للعباسية: دار الخاصة ودار العامة كما هو مسطور في أخبارهم ثم حدث في الدولة حجاب ثالث أخص من الأولين وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة وذلك أن أهل الدولة وخواص الملك إذ نصبوا الأبناء من الأعقاب وحاولوا الاستبداد عليهم فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنة بطانة ابنه وخواص أوليائه يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير ويعوده ملابسة أخلاقه هو حتى لا يتبدل به سواه إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه وهذا الحجاب لا يقع في الغالب إلا أواخر الدولة كما قدمناه في الحجر ويكون دليلا على هرم الدولة ونفاد قوتها وهو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم لأن القائمين بالدولة يحاولون على ذلك بطباعهم عند هرم الدولة وذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك وخصوصا مع الترشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه.
|